طباعة
المجموعة: حوارات
الزيارات: 1666

حاورها: فهد الصكر fahad saqar

 

الأدب في رأيي مثل الرسم والموسيقى، لغة إنسانية

الحياة الثقافية في العراق تكاد تكون المتنفس الوحيد وسط الكم الهائل من الفوضى

عندما احست بتثاقل وقع اقدام (المخبرين) تدنو قرباً من بيتها، اشار عليها ابوها بالرحيل، وهجرة البيت الذي احتضن طفولتها، والف ضحكاتها البريئة، وذكرياتها التي دونت بعضاً منها في دفتر مذكراتها والذي بقي نائماً تحت وسادتها. هنا بدأ الصراع مع الذات، يقيناً ان قدميها قد تسمرتا وهي تخطو خطواتها الاولى نحو المجهول. ابتدأت رحلة - النفي- في عوالم الغربة من الجزائر لتحط رحالها في مدينة الضباب -لندن - عبر سلسلة من محطات اللوعة والحنين، لتصطدم بوجوه لا تعرف معنى القادم اليها من ليل بغداد الموحش، المسكون بالقسوة والصمت، كان ذلك العام 1980.

ibtisam taher1

وهناك بدأت تخلق عوالم تمتد من خلالها الى بيتها الاثير بغداد كانت قد بدأتها لتسكن اليها عبر سرديات بغدادية حكتها لزميلاتها طالبات (متوسطة البتول) قصصاً تحكي عن احلام تقترب اكثر من نوافذ التطلع لمستقبل افضل لغربة العراق، ففازت قصتها - صرخة عبرالخيام - في مسابقة للقصة القصيرة لثانويات بغداد.

وكتبت فيما بعد الكثير من القصص القصيرة والمقالات في مواقع الكترونية تحت اسم مستعار (كاتبة عراقية) كذلك في الصحف والمجلات العربية الصادرة في لندن.

التقيتها في العديد من الندوات الثقافية بعد عودتها للعراق وهي تسبح في فضاء الحرية انها القاصة والروائية ابتسام يوسف الطاهر فكان لنا هذا الحوار معها:

سألني منذ أيام زميل لي في مدرسة الغربة وقد التقيته صدفة في شارع المتنبي "متى عدت للعراق؟ "أجبته بعفوية "وهل خرجت من العراق لأعود إليه؟ وهذا الإحساس حقيقة رافقني عقود الغربة. فالعراق كان معي في رأسي وقلبي، كنت احمله معي وخرجت من اجله، لكي لا أقول ما اسمعه اليوم من تذمر واتهام للوطن، وكأنه هو السبب بما نحن فيه من الم وحزن وحرمان، متناسين ان الوطن هو أول الضحايا وأول المحرومين، فهل هناك وطن له كل هذا الصبر على أبنائه؟ بالرغم من العطش نرى أرضه معطاء ما ان تبذر بذرة حتى تبهجك في اليوم التالي بنبتة تتمايل مزهوة أمامك. مع ذلك نستكثر عليه البذور!. فيه كل الخيرات وهو محروم من ابسط شروط الازدهار، من تسلموا القيادة كل منهم يسعى لإرضاء وطن آخر، ويهمل الوطن الأم الذي قدم لهم كل شئ حتى وهو في عز حرمانه وعطشه.. هذا الانطباع.

- في كل مرة اعيش هنا بضعة شهور تزودني بمخزون من الأفكار والأحلام. زيارتي السابقة الهمتني لأكتب رواية (حصى الشاطيء) بعد كتابتي روايتي الأولى (صمت الشوارع..)، واعتبرها مهمة ادين فيها من يضع السم في العسل ليخدع جموع من المساكين من الجهلة الفقراء ماديا وفكريا. في كل زيارة أعود لوطن الغربة بشحنة من الأمل والرغبة في العمل، كما لو ان وجودي هنا يزيح بعض الصدأ عن ما تراكم من ذكريات وأفكار ليستفزني لحالة الكتابة، فالكتابة دائما هي الملاذ، الجأ لها لأحتمي بين سطورها.. فكتبت رواية طويلة تختلف تماما عن الأخريات، ربما تصلح ان تكون مسلسل سميتها (ليالي المعري). كلاهما ينتظران من يهمه أمر الكتابة ويتبنى نشرهما. قد أبالغ لو قلت ان وجودي في داخل الوطن يغنيني عن البحث عن الملاذ فهو الملاذ.. ولكن الحقيقة المرة ان الأجواء كلها تتآمر ضد الإبداع او التأمل، فانت في صراع متواصل مع متطلبات الحياة، اولها الكهرباء ثم الماء الى الحر القاتل، حتى السطح الذي كان ملاذنا في مراحل المراهقة نتأمل فيه السماء فتمنحنا الالهام للشعر او الكتابة او الأمل والفرح، صار الآن جحيما، ولا مقهى تلجأ اليه ولا حديقة تستظل بشجيراتها لتكتب او تقرأ! اجلس على رصيف الوطن واسطر بعض الهمس او الصرخات عسى ولعل ان تجد من يسمعها.. فالعمود (على رصيف الوطن) الذي ينشر في الصباح الجديد هو عبارة عن يوميات وطن أكثر منها يومياتي.

ibtisam taher

- ليس لي طقوس محددة للكتابة، فهي تأتي هكذا بلا مقدمات، فأجدها فراشة وانا طفلة ألاحقها لأمسك بها وأخبئها اسطرا.. الغربة منحتني القدرة لأحب الحياة وأحب إنسانيتي، فهي تجربة غنية بكل أبعادها، هناك فسحة للتأمل في أي مكان في الحديقة او في القطار او الباص او في البيت.

في الفجر او منتصف الليل، المهم ان لا اتكاسل، واؤجل الموضوع، فكم ضيعت من افكار ومشاريع. بينما في الوطن هناك اكثر من اربع اعادي يحاصرون الكتابة.. النور (الذي ينقطع كل ساعة) والناطور (اعين تستنكر عليك الكتاب في السيارة او في حديقة) والحر القاتل.. وصعوبة الاختلاء مع الكتاب!.

- لاشك ان للحرية الفضل الكبير في انطلاق الكلمة والرأي وفي اتساع فضاء الكتابة.. والحقيقة ان العراقي لم يتوقف عن الإبداع والعطاء الفكري الأدبي والفني حتى في الفترات الظلامية، وفي مراحل الحرمان من ابسط شروط الحياة فما بالك بأبسط شروط الإبداع.

وفي رأيي ان الإبداع حينها كان نوعيا، بالرغم من التعتيم والإقصاء حينها، طبعا هذا بالنسبة للإبداع الملتزم البعيد عن أسلاك السلطة.

ومساحة الحرية منحت الفرصة للمبدعين للظهور والانتشار. ولكنها في مرحلة غربلة الان، فالحرية في زمن الفوضى وغياب القانون فتحت الأبواب للمتاجرة في الكلمة، فنرى كم الصحف والمجلات والمحطات الفضائية والاذاعات تضاعفت كمّا على حساب النوع، لكنها حالة صحية مهما قيل عنها، والأيام كفيلة بالغربلة ليبقى الأصح والأجمل والأكثر إبداعا.

- الأدب في رأيي مثل الرسم والموسيقى، لغة إنسانية، وان كان حظ النساء في الموسيقى والرسم ضئيل.. المهم لم نسمع من يقول تلك المعزوفة او تلك اللوحة نسوية..

اذن الأدب هو لغة فكرية تميز بها الإنسان، للتعبير عن حالة واقعية او متخيلة يستخدمها الإنسان امرأة كان أو رجل. لاشك ان المرأة نتاجها محدود قياسا للرجل وهذا يعود لمسؤولياتها الأخرى أزاء البيت والأولاد ومسؤولياتها الاجتماعية.

فالرجل يجد من يرعاه سواء كان هاويا او محترفا الكتابة، فالزوجة والأولاد وحتى الأصدقاء يتركون له مساحة خاصة لممارسة الكتابة، بينما المرأة تعتبر الأسرة والأولاد أولا ومن ثم الابداع، ويعامل إبداعها على انه هواية لا تغني ولا تنفع! ماعدا بعض الاستثناءات.

الثقافة ترتبط بحالة المجتمع سياسيا واقتصاديا، فالمشهد الثقافي يشبه الى حد كبير المشهد السياسي، فكما ظهرت عشرات بل مئات الأحزاب السياسية، هناك العشرات وربما المئات من المنابر الثقافية، تتشابه في تشتت الجهود. الأولى تتاجر في الشعارات والأخرى في الكلمات. لكن المشهد الثقافي أجده أكثر عطاءا وأكثر جدوى. خاصة من قبل المثقفين الملتزمين الذين استخدموا أقلامهم وأفكارهم من اجل الناس والوطن ضد الظلم.

لا – يختلف اثنان ان الحياة الثقافية في العراق تكاد تكون المتنفس الوحيد وسط الكم الهائل من الفوضى وحرمان الناس من ابسط الخدمات حتى البديهية!

فالفعاليات الثقافية لم تتوقف رغم كل الظروف والمعوقات. لكن استضافة أي فعالية عالمية او عربية، قطعا لا.. هو طموح مشروع، او حلم نرجوه جميعا، لكن من اجل تحقيقه لابد من توفر الأرضية والآليات الثابتة.

- الفوضى ليست جديدة، فمنذ تشتت الكلمة وكل فئة عارضت السلطة بطريقتها ولوحدها ولم تمد يدها للآخر، بل منها من رفضت الاخر في النضال! حتى صرنا مثل مجموعة بالونات محصورة في صندوق واحد وحين فتح الصندوق تناثرت في الفضاء.. وبعض السياسيين لا علاقة لهم بالسياسة او خدمة الوطن، بل بعضهم تجار وجدوا في السلطة فرصة سريعة للربح السهل. ومنهم من ينتمي لبلد آخر اكثر من انتمائه للعراق!. الحل في رفض المحاصصة، وإعادة الانتخابات وفق برامج مدروسة وصادقة، تخدم البلد والناس وتنهض بهم لا أن تجرهم لهاوية الجهل والظلام! ولابد من تغيير قانون الانتخابات وقانون الأحزاب وفق ما معمول فيه في البلدان المتقدمة والمتطورة ديمقراطيا.